معرض القاهرة الدولي للكتاب حدث مفرح بالنسبة لي وللكثيرين أيضا، لكنها فرحة قاصرة على سكان العاصمة التي تتمتع بمختلف الامتيازات الثقافية من مسارح ودورعرض ومكتبات وقاعات للأنشطة ومنافذ بيع الكتب. المعرض مفرح لكن أثره لا يمضي أبعد من العاصمة ولايبلغ أطراف مدن الصعيد وقراه، ولا رشيد أوالعريش أو أي مكان أبعد من القاهرة. هذا مع أن دورة المعرض الحالية تقام تحت شعار"الثقافة في المواجهة"، ولعل المقصود بالمواجهة هو مواجهة الثقافة لكل فكر متخلف لاستئصال جذوره التي تترعرع في الإرهاب والطائفية والعدمية. إلا أن المسئولين يفضلون أن تكون المواجهة هنا، على أرضهم، في القاهرة، وليس هناك في الريف والصعيد حيث تخيم ظلمة الحرمان الثقافي، وتمتد لتطوي أنوار الفكر أينما ظهر إشعاعها. وعندما يقتصر أثر المعرض على القاهرة فإننا عمليا – نحن المتنورين – ندعو أمثالنا من الناس المتنورين على حفلة تنوير! مما يذكرني بنكتة عادل إمام: " ناس عندهم لحم يدعون آخرين عندهم لحم ليأكلوا لحم"! هذا بينما تدور المعركة الحقيقية بعيدا هناك حيث الناس في أمس الحاجة إلي" ثقافة مواجهة". لماذا لا ينظم المسئولون فروعا للمعرض داخل قصور الثقافة التي وعددها نحو ستمائة تغطي المدن من أسوان إلي الإسكندرية؟ لماذا لا ينظم المسئولون ولو جزءا من ندوات المعرض هناك في الريف؟ وفي القرى؟ ولماذا لا يدرجون الحفلات الموسيقية والشعرية في حياة الريف والصعيد؟. هناك جانبان في هذا الموضوع الأول يتعلق بميزانية وزارة الثقافة التي تقل عن واحد بالمئة من الموازنة العامة للدولة، أي حوالي مليار ونصف مليار جنيه يضيع منها مليار كامل على 34 ألف موظف في الوزارة وليس على النشاط الثقافي. هذا كل ما تخصصه الدولة للثقافة وهو لا يزيد كثيرا عما استطاع ثلاثة موظفين نهبه في في الهيئة القومية للتأمينات من أموال اليتامى، ولا يزيد عما نهبه فرد واحد هو حبيب العادلي وزير الداخلية السابق. وحسب تصريح لوديع حنا المستشار السابق لوازارة الثقافة فإن نصيب المواطن من مخصصات النشاط الثقافي سنويا هو بالدقة : ثلاثة جنيهات ونصف! أما نصيب المواطن سنويا من ميزانية النشاط الثقافي في قصور الثقافة فهو بالدقة : واحد وثلاثون قرش صاغ، قرش ينطح قرش! وإذن فإننا أمام" ثقافة مواجهة" تخصص لتنوير كل مواطن أقل من خمسة قروش سنويا! وهو أرخص سعر للتنوير في العالم! أما الجانب الآخر فهو أن المواطن- من خارج القاهرة- لايحصل على خدمات ثقافية حتى في حدود تلك القروش القليلة! لأن الأمر – خارج أزمة الميزانية- يحتاج إلي بوصلة سياسية وفكرية ووطنية تجعل من القائمين على الوزارة يهتمون أولا وأخيرا بالسؤال التالي: كيف يصل التنوير إلي مستحقيه؟ كيف نقيم لمعرض الكتاب فروعا تقدم الكتب داخل أبنية قصور الثقافة التي تحولت إلي" قشور الثقافة"؟ وكيف يمكن ولو لبعض الندوات أن تقام في القرى؟هذه المسألة ليست بحاجة لميزانية بل إلي خيال وإرادة وأيضا إلي" بوصلة" تشير إلي حيث الناس محرومين من الكتب والنقاش والفكر والشعر والعروض الفنية. المواطنون الذين يعيشون أبعد من القاهرة هم أيضا مواطنون ومثلهم مثل سكان العاصمة يدفعون تكلفة كل ذلك، لكن التنوير لا يصل لمستحقيه!